يعقوب النبى هو إسرائيل
النبى يعقوب هو إسرائيل 👇
أولًا:
ليس ثمة خلاف بين المفسرين والعلماء في أن ” إسرائيل ” هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد دلَّ على ذلك: الكتاب، والسنَّة، وأقوال الصحابة، وأقوال المفسرين.
أ. الكتاب:
قوله تعالى ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
[ آل عمران/الآية93 ].
وقد أنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبًا لليهود الذين زعموا أن ما حرَّمه الله تعالى عليهم ببغيهم إنما هو بسبب أنه كان محرَّمًا على أبيهم يعقوب عليه السلام، فأمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يطلب منهم إحضار ذلك من التوراة، وأنَّى لهم ذلك، فالتوراة ليس فيها تحريم تلك الطيبات ابتداء على يعقوب وبنيه، إنما حرَّمها يعقوب عليه السلام من نفسه على نفسه، ولم تكن من شرع الله وتحريمه.
* قال الطبري – رحمه الله -:
وأما قوله: ( التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )، فإن معناه: قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها: ائتوا ( بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا )، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما أنزلتُه في التوراة.
( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.
” تفسير الطبري ” ( 6 / 15 ).
* وقال ابن القيم – رحمه الله -:
وقوله تعالى: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) أي: كانت حلالًا لهم قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك، ثم قال تعالى:( قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) هل تجدون فيها أن ” إسرائيل ” حرَّم على نفسه ما حرَّمته التوراة عليكم، أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة؟ وإذا كان إنما حرَّم هذا وحده وكان ما سواه حلالاً له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرًا منه: ظهر كذبكم، وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى في نسخها، فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه.
” إغاثة اللهفان ” ( 2 / 321 ).
* وقال الشنقيطي – رحمه الله – في بيان جرائم اليهود في إخفاء بعض ما أنزل الله عليهم -:
ومن ذلك: إنكارهم أن الله حرَّم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) [ النساء / من الآية 160 ]، وقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) [ الأنعام / الآية 146 ].
فإنهم أنكروا هذا، وقالوا: لم يحرَّم علينا إلا ما كان محرَّمًا على إسرائيل، فكذَّبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [ آل عمران / الآية 93 ]. ” أضواء البيان ” ( 1 / 371 ).
ب. السنَّة:
وقد بيَّنت السنَّة النبوية أن ” إسرائيل ” هو يعقوب عليه السلام، وقد اعترف بذلك اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث بيان سبب تحريم يعقوب على نفسه ما أحلَّه الله له، وبيان ذلك المحرَّم.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَخْبِرْنَا عَنْ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ قَالَ: ” مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ, مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ, يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ” فَقَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: “زَجْرُهُ بِالسَّحَابِ إِذَا زَجَرَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ ” قَالُوا: صَدَقْتَ، فَأَخْبِرْنَا عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: ” اشْتَكَى عِرْقَ النَّسَا, فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا؛ فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا ” قَالُوا: صَدَقْتَ. رواه الترمذي ( 3117 ) والنسائي في ” الكبرى ” ( 9072 )، وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي “.
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنْ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ, فَكَانَ فِيمَا سَأَلُوهُ: أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَام مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ, فَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الْإِبِلِ, وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. رواه أحمد ( 4 / 277 ) وحسَّنه محققو المسند.
وفي الحديثين بيان الشيء الذي حرَّمه يعقوب عليه السلام على نفسه وهما: لحوم الإبل وألبانها، وسبب ذلك أنه نذر لله تعالى أن يحرِّم على نفسه أحب الطعام وأحب الشراب إليه، فكانا لحم ولبن الإبل، وذلك إن شفاه الله من مرض عرق النَّسا، والذي كان يتناولهما أثناء مرضه.
ج. أقوال الصحابة:
* قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
أما قول ابن مسعود: فوصله عبد بن حميد، وابن أبي حاتم بإسنادٍ حسنٍ عنه قال: ” إلياس هو إدريس، ويعقوب هو إسرائيل. ” فتح الباري ” ( 6 / 373 ).
وفي قول ابن مسعود – رضي الله عنه – أن ” إلياس ” هو ” إدريس ” وقفة، ليس هذا مجال البحث فيها.
د. أقوال المفسرين:
لا يُعرف بينهم خلاف، ولا داعي لإكثار النقل في ذلك، ونكتفي بنقلين:
* قال الإمام الطبري – رحمه الله -:
يعني بقوله جل ثناؤه: ( يا بني إسرائيل ) ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، وكان يعقوب يدعى ” إسرائيل “، بمعنى: عبد الله وصفوته من خلقه. و” إيل ” هو الله، و” إسرا ” هو العبد، كما قيل: ” جبريل ” بمعنى عبد الله.
” تفسير الطبري ” ( 1 / 553 ) -.
* وقال الشوكاني – رحمه الله -:
( يا بني إسرائيل ) اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه: ” عبد الله ” لأن ” إسرا ” في لغتهم هو العبد، و ” إيل ” هو الله. ” فتح القدير ” ( 1 / 116 ).
ثانيًا:
وليس مع من نفى أن ” إسرائيل ” هو يعقوب عليه السلام حجة، وقد رأينا أن بعض ” القرآنيين ” من أهل الانحراف والضلال هو من يشيع هذا، وهم قوم لا يعبأون بالسنَّة النبوية, ولا يقيمون لها وزنا، فضلاً عن كلام الصحابة رضي الله عنهم في فهم النصوص من القرآن والسنَّة.
ومما استدل به بعض من نفى أن يكون إسرائيل هو يعقوب عليه السلام:
قول تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) [ مريم / من الآية 58 ].
قالوا: ” فقد ذكر النص ذرية إبراهيم، وقطعاً ” يعقوب ” داخل في الخطاب كونه ابن إسحاق بن إبراهيم فهو من ذريته، وعند ما تم عطف ” إسرائيل ” على النبي إبراهيم: دلَّ ضرورة على أنه ليس من ذريته، وإنما يشترك معه في نسبه إلى آدم المصطفى مثل النبي نوح عليه السلام، فهم أبناء عم مع فارق الزمن بينهم، فإسرائيل رجل صالح ليس نبيًّا “.
وهذا كلام ساقط لا قيمة له، فسياق الآية ليس في ذِكر الصالحين مع الأنبياء، بل هي في الأنبياء فقط، ومن سمَّاهم الله تعالى فهم من خيرتهم، وقد نصَّ على ذِكرهم، ثم أطلق فقال: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا )، وتخصيص ذرية ” إسرائيل ” عليه السلام بالذِّكر إنما هو لعظيم من كان منهم من الأنبياء والمرسلين، كموسى، وعيسى عليهما السلام.
* قال ابن كثير – رحمه الله -:
قال السدِّي وابن جرير – رحمه الله -: فالذي عنى به من ذرية آدم: إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم: إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل: موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى بن مريم. ” تفسير ابن كثير ” ( 5 / 242 ).
ولو تأمل هذا المتحذلق الذي يزعم أنه ” قرآني “! في الآية لوجدها ترد عليه، فأولها قوله تعالى: ( أُولَئِكَ ) فعلى من يعود هذا الضمير؟ إنه بل شك يعود على من ذُكر من الأنبياء قبل هذه الآية، هم: إسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس، وبعد أن ذكرهم الله تعالى بأسمائهم قال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَم … ) وهو واضح، ولكن طمس الله على بصيرة أولئك الزنادقة الذين كفروا بالقرآن والسنَّة، وزعموا أنهم على الإسلام.
* قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله -:
الإشارة في قوله ( أُولَئِكَ ) راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة، وقد بيَّن الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم.
وزاد على هذا في سورة ” النساء ” بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله: ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ). ” أضواء البيان ” ( 3 / 442 ).
فانظر الفرق بين السياقين في السورتين, يتبين لك ضلال من جعل ” إسرائيل ” عليه السلام في سورة مريم من الصالحين، وهي في سياق ذِكر الأنبياء.
ومن المحتمل أن يكون المراد بالآية هنا: جنس الأنبياء، وليس فقط من ذُكر في هذه السورة، وهو قول ابن كثير – رحمه الله -، وعلى كلا القولين ليست الآية في ذِكر الصالحين مع الأنبياء، بل إما من ذُكر منهم في السورة، أو جنسهم – عليهم السلام -.
* قال ابن كثير – رحمه الله -:
يقول تعالى هؤلاء النبيون – وليس المراد هؤلاء المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذِكر الأشخاص إلى الجنس – (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) الآية.
ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء: أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إلى أن قال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنعام / الآية 83 – 90 ]، وقال تعالى:( مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )[ غافر / من الآية 78 ].
” تفسير ابن كثير ” ( 5 / 241 ، 242 ).
ومما استدلوا به: قوله تعالى: ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) [ آل عمران / من الآية 93 ].
قالوا: ” وهذا صريح في نفي النبوة عن إسرائيل، إذ لو كان نبيًّا, لمَا حرَّم على نفسه شيئاً دون وحي من الله عز وجل، ولو كان نبيًّا وفعل ذلك لنزل الوحي, وصحح ذلك, مثل قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) [ التحريم / من الآية 1 ] “.
وما قاله هذا القائل فيه تخبط:
أ. فهو يقول: ” لو كان نبيًّا لمَا حرَّم على نفسه شيئاً دون وحي من الله عز وجل “! ثم يتناقض ويثبت أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله له دون وحي من الله! فسقطت مقدمته.
ب. ثم يقول ” ولو كان نبيًّا وفعل ذلك, لنزل الوحي وصحح ذلك “! وهذا اعتراض على الله تعالى, وإلزام له بأن يفعل ما يشاء هذا الكاتب! فما المانع أن يقر الله تعالى تحريم يعقوب على نفسه ما أحلَّ الله له، ويمنع نفسه منه، ولا يقر نبيه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم؟ إن في هذا أبلغ الحكَم، فانظر ماذا نتج من تحريم يعقوب على نفسه ما حرَّم من كشف زيغ اليهود وإفكهم، وانظر ماذا ترتب على منع النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم ما أحلَّ الله له من تربية نسائه، ووعظهنَّ أبلغ موعظة، فشتان بين منع نبي الله يعقوب ما تحبه نفسه وفاء بنذره لربه تعالى، وبين منع نبينا صلى الله عليه وسلم لما يحبه ابتغاء مرضاة أزواجه، ثم يأتي مثل هؤلاء ليعترض الواحد منهم بجهله وتخبطه على إرادة الله تعالى، وفعله، وتشريعه، وحكمته.
فتبين من ذلك: أن للنبي أن يجتهد في التحريم والتحليل، فإما أن يُقرَّ عليه، أو يُنكر عليه من ربه عز وجل.
* قال القرطبي – رحمه الله -:
واختُلف هل كان التحريم من ” يعقوب ” باجتهاد منه، أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح: الأول؛ لأن الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى: ( إِلاَّ مَا حَرَّمَ ) وأن النبي إذا أدَّاه اجتهاده إلى شيء: كان دينًا يلزمنا اتباعه؛ لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الإذن له في تحريم ذلك: ما تسور على التحليل والتحريم.
وقد حرَّم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم العسلَ على الرواية الصحيحة – أو خادمه ” مارية ” -: فلم يقرَّ الله تحريمه، ونزل: ( لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) [ التحريم / من الآية 1 ]. ” تفسير القرطبي ” ( 4 / 135 ).
ج. ومما يرد على الشبهة تلك من أصلها أن يقال: إن ” التحريم ” الوارد في الآيتين من النبييْن عليهما السلام هو بالمعنى اللغوي، وهو ” المنع “! وليس بالمعنى الشرعي؛ لأنه لا يُتصوَّر وجود تحريم بالمعنى الشرعي على الشخص بنفسه، وإنما يكون ذلك إذا جعله محرَّمًا على الناس، وينسب ذلك للشرع، وهو ما لم يكن من النبييْن عليهما السلام، ومما يدل على ذلك أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام بعد أن منع نفسه من ” العسل ” وعاتبه ربه عتابًا لطيفًا: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [ التحريم / الآية 2 ]، وقد أخذ التحريم هنا حكم اليمين، لذا جاءت كفارته كفارة اليمين، وليس هذا كفارة من حرَّم ما أحلَّ الله تحريمًا شرعيًّا.
* قال أبو حيَّان الأندلسي – رحمه الله -:
ومعنى ( تُحَرّمُ ): تمنع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع؛ لتطييب خاطر بعض مَن يحسن معه العشرة.
” تفسير البحر المحيط ” ( 8 / 284 ).
* وقال الطاهر بن عاشور – رحمه الله -:
وفعل ( تُحَرِّمُ ) مستعمل في معنى: تجعل ما أحلّ لك حرامًا، أي: تحرّمه على نفسك، كقوله تعالى: ( إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ ) [ آل عمران / من الآية 93 ]، وقرينتهُ: قوله هنا: ( مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ).
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حرامًا كما في قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) [ الأعراف / من الآية 32]، وقوله: ( يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ) [ التوبة / من الآية 37 ].
ولا يخطر ببال أحدٍ أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حرامًا على الناس، أو عليك. ” التحرير والتنوير ” ( 28 / 346 ، 347 ).
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
حرَّم ما أحل الله له؛ طلباً لمرضاة زوجاته؛ وتأليفاً لقلوبهم، ولكنه لم يحرِّمه شرعًا، يعني: لم يحرمه حكماً شرعيًّا، إنما حرَّمه امتناعًا، يعني: حرَّمه على نفسه، كما تقول: ” حرامٌ عليَّ أن ألبس هذا الثوب “، ” حرامٌ عليَّ أن أدخل هذا البيت “، “حرامٌ عليَّ أن أشتري هذه السيارة ” مثلًا.
هذا ليس تحريمًا شرعيًّا، لكنه تحريم امتناع، يعني: أنني ألزم نفسي بأن أمتنع من هذا الشيء. ” شرح العقيدة السفارينية ” ( ص 573 ، 574 ).
ومما استُدل به من نفى أن يكون ” إسرائيل ” هو يعقوب عليه السلام قول بعضهم: ” ولم يذكر الله عز وجل ” إسرائيل ” أبداً بصفة النبوة، بينما يعقوب قد تمَّ ذكره مع الأنبياء “.
وقد سبق بيان خطأ هذا القول، وعدم مطابقته للواقع، وذلك فيما سبق، عند الحديث على آية ” مريم “، وفيها بيان أن ” إسرائيل ” ذُكر مع الأنبياء عليهم السلام.
ومن أكثر ما يتعجب منه المسلم من جرأة هذا الكاتب: ما ختم به مقاله من قوله: ” والخطاب في القرآن ( يا بني إسرائيل ) إنما هو للعرب! وكذلك خطاب التفضيل والإنعام عليهم! “.
ويغني فساد هذا القول عن إفساده، ويغني بطلانه عن إبطاله، فلم تعجب هذا الكاتب النصوص الواردة في أن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، فراح يزعم أنه من ” الصالحين “، ثم جزم أنه من ” العرب “! فواعجبا من هذه الجرأة.
ثالثًا
ونحن لم نطلع على الكتاب المذكور في السؤال، ولا نظنه يخرج في ادعاءاته وزعمه عما ذكرناه عن ذلك الكاتب الضال، وأما بخصوص ما ختم به الأخ سؤاله حول قصة كعب الأحبار مع أبي هريرة – رضي الله عنه -: فلنرَ الحديث في مظانه، ولنقف على كلام أهل العلم فيه:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ، أَلاَ تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ، وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ ” قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ كَعْبًا فَقَالَ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ ذَلِكَ مِرَاراً، قُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟. رواه البخاري ( 3129 ) ومسلم ( 2997 ) .
وهذا الحديث الصحيح فيه بيان ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن ” الفئران ” هم المسخ الذي حصل في بني إسرائيل المعتدين منهم، وهذا قبل أن يُوحى إليه أنهم مُسخوا قردة وخنازير، وأنهم لم يتناسلوا، وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بعدم شرب الفأر من لبن الإبل على أنهم هم المسخ، وهو يؤكد ما قلناه من أن ما حرَّمه يعقوب على نفسه إنما تبعه عليه بنوه تقليداً له، حتى نزلت التوراة بتحريم ذلك عليهم جزاء بغيهم، وهم كذبوا في ادعائهم أنها حرمات بسبب يعقوب عليه السلام.
وهذا الذي قاله أبو هريرة – رضي الله عنه – لم يتردد فيه، ولم ينقله عن التوراة، ولا عن الكتب السابقة، وقد سكت كعب الأحبار عن مجادلته عندما أكَّد أبو هريرة – رضي الله عنه – سماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
* قال النووي- رحمه الله -:
قوله صلى الله عليه وسلم: ” فقدت أمة من بني إسرائيل, لا يدرى ما فعلت, ولا أراها إلا الفأر, ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته) معنى هذا: أن لحوم الإبل وألبانها حُرِّمت على بني إسرائيل، دون لحوم الغنم وألبانها، فدل بامتناع الفأرة من لبن الإبل دون الغنم على أنها مسخ من بني إسرائيل.
قوله: ” قلت: أأقرأ التوراة؟ ” هو بهمزة الاستفهام، وهو استفهام إنكار، ومعناه: ما أعلم، ولا عندي شيء إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنقل عن التوراة، ولا غيرها من كتب الأوائل شيئاً، بخلاف كعب الأحبار وغيره ممن له علم بعلم أهل الكتاب. ” شرح مسلم ” ( 18 / 124 ).
* وقال بدر الدين العيني – رحمه الله -:
والحاصل: أن أبا هريرة قال: ” أنا أقرأ التوراة حتى أنقل منها؟ ولا أقول إلا من السماع عن رسول الله “. ” عمدة القاري شرح صحيح البخاري ” ( 15 / 194).
* وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قوله: ” فقلت: أفأقرأ التوراة؟ ” هو استفهام إنكار، وفي رواية مسلم: ” أفأنزلت عليَّ التوراة؟ ” وفيه: أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وأن الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه: يكون للحديث حكم الرفع، وفي سكوت كعب عن الرد على أبي هريرة دلالة على تورعه.
وكأنهما جميعًا لم يبلغهما حديث ابن مسعود قال: ” وذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم القردة والخنازير فقال: ” إِنَّ الله لَمْ يَجْعَل لِلمَسْخِ نَسْلاً, وَلاَ عَقِباً, وَقَدْ كَانَتْ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ” – رواه مسلم ( 2636 ) – وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ” لاَ أُراهَا إِلاَّ الفَأْرَ ” وكأنه كان يظن ذلك، ثم أُعلم بأنها ليست هي.
قال ابن قتيبة: إن صح هذا الحديث، وإلا فالقردة، والخنازير هي الممسوخ بأعيانها، توالدت. قلت: الحديث صحيح.” فتح الباري ” ( 6 / 353 ).
فتحريم ألبان الإبل ولحومها على بني إسرائيل موجود في التوراة، وهي من الطيبات التي حرَّمها الله تعالى عليهم جزاء بغيهم وظلمهم، وهم كذبوا في زعمهم أنهما محرمان بتحريم الله على أبيهم يعقوب عليه السلام، وكعب الأحبار وجد التحريم على بني إسرائيل في ” التوراة “، وأبو هريرة نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه استغراب كعب – رحمه الله -، ثم ليس له إلا التسليم للحديث, وأن ما نقله أبو هريرة ليس عن التوراة, إنما عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت، وسلَّم، ومع ما ذكرناه سابقاً من تفصيل في المسألة يتبين بلا أدنى شك أن ” إسرائيل ” هو ” يعقوب ” – عليه السلام – ، وقد جرَّ إثبات ذلك إلى فوائد نسأل الله أن تكون نافعة للقراء.
والله أعلم.
منقول للفائدة
تعليقات